فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال المراغي:

{لا رَيْبَ فِيهِ}.
الرّيب والريبة: الشك، وحقيقته قلق النفس واضطرابها، سمى به الشك لأنه يقلق النفس ويزيل منها الطمأنينة، وقد جاء في الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الشك ريبة والصدق طمأنينة».
والمعنى- إن هذا الكتاب لا يعتريه ريب في كونه من عند اللّه، ولا في هدايته وإرشاده، ولا في أسلوبه وبلاغته، فلا يستطيع أحد أن يأتى بكلام يقرب منه بلاغة وفصاحة- وإلى هذا أشار بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ}.
وارتياب كثير من الناس فيه، إنما نشأ عن جهل بحقيقته، أو عن عمى بصيرتهم، أو عن التعنت عنادا واستكبارا واتباعا للهوى أو تقليدا لسواهم.
{هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} الهدى بالنظر إلى المتقين: هو الدلالة على الصراط المستقيم مع المعونة والتوفيق للعمل بأحكامه، إذ هم قد اقتبسوا من أنواره وجنوا من ثماره، وهو لغيرهم هدى ودلالة على الخير وإن لم يأخذوا بهديه وينتفعوا بإرشاده.
وكون بعض الناس لم يهتدوا بهديه لا يخرجه عن كونه هدى، فالشمس شمس وإن لم يرها الأعمى، والعسل عسل وإن لم يجد طعمه ذو المرّة.
والمتقين: واحدهم متق، من الاتقاء وهو الحجز بين الشيئين، ومنه يقال اتقى بترسه أي جعله حاجزا بين نفسه ومن يقصده، فكأن المتقى يجعل امتثال أوامر اللّه واجتناب نواهيه- حاجزا بينه وبين العقاب الإلهى.
والعقاب الذي يتّقى ضربان: دنيوى وأخروى وكل منهما يتّقى باتقاء أسبابه.
فعقاب الدنيا يستعان على اتقائه بالعلم بسنن اللّه في الخليقة، وعدم مخالفة النظم التي وضعها في الكون، فاتقاء الفشل والخذلان في القتال مثلا يتوقف على معرفة نظم الحرب وفنونها وآلاتها كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ} كما يتوقف على القوة المعنوية من اجتماع الكلمة واتحاد الأمة، والصبر والثبات والتوكل على اللّه واحتساب الأجر عنده.
وعقاب الآخرة يتّقى بالإيمان الخالص والتوحيد والعمل الصالح واجتناب ما يضاد ذلك من الشرك واجتناب المعاصي والآثام التي تضر المرء أو تضر المجتمع.
والمتقون في هذه الآية هم الذين سمت نفوسهم، فأصابت ضربا من الهداية واستعدادا لتلقى نور الحق، والسعى في مرضاة اللّه بقدر ما يصل إليه إدراكهم ويبلغ إليه اجتهادهم.
وقد كان من هؤلاء ناس في الجاهلية، كرهوا عبادة الأصنام، وأدركوا أن خالق الكون لا يرضى بعبادتها، كذلك كان من أهل الكتاب ناس يؤمنون باللّه واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}.
حال من الكتاب أو خبر أول أو ثان على ما مر قريبًا.
والريب الشك وأصل الريب القلق واضطراب النفس، وريبُ الزمانِ وريبُ المنون نوائِب ذلك، قال الله تعالى: {تتربص به ريب المنون} [الطور: 30] ولما كان الشك يلزمه اضطراب النفس وقلقها غلب عليه الريب فصار حقيقة عرفية يقال رابه الشيء إذا شككه أي بِجَعللِ ما أوجب الشك في حاله فهو متعد، ويقال أرابه كذلك إذ الهمزة لم تكسبه تعدية زائدة فهو مثل لَحِق وأَلْحق، وزَلَقه وأزلقه وقد قيل إن أراب أضعف من راب أراب بمعنى قَرَّبه من أن يشك قاله أبو زيد، وعلى التفرقة بينهما قال بشار:
أخوك الذي إن ربته قال إنما ** أرَبْتَ وإن عاتبتَه لان جانبه

وفي الحديث: «دع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك» أي دع الفعل الذي يقربك من الشك في التحريم إلى فعل آخر لا يدخل عليك في فعله شك في أنه مباح.
ولم يختلف متواتر القراء في فتح {لا ريب} نفيًا للجنس على سبيل التنصيص وهو أبلغه لأنه لو رفعَ لاحتمل نفي الفرد دون الجنس فإن كان الإشارة بقوله: {ذلك} إلى الحروف المجتمعة في {الم} على إرادة التعريض بالمتحَدَّيْنَ وكان قوله: {الكتاب} خبرًا لاسم الإشارة على ما تقدم كان قوله: {لا ريب} نفيًا لريب خاص وهو الريب الذي يعرض في كون هذا الكتاب مؤلفًا من حروف كلامهم فكيف عجزوا عن مثله، وكان نفي الجنس فيه حقيقة وليس بادعاء، فتكون جملة {لا ريبَ} منزَّلة منزِلةَ التأكيد لمفاد الإشارة في قوله: {ذلك الكتاب} وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون المجرور وهو قوله: {فيه} متعلقًا بريب على أنه ظرف لغو فيكون الوقف على قوله: {فيه} وهو مختار الجمهور على نحو قوله تعالى: {وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه} [الشورى: 7] وقوله: {ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه} [آل عمران: 9] ويجوز أن يكون قوله: {فيه} ظرفًا مستقرًا خبرًا لقوله بعده: {هدى للمتقين} ومعنى {في} هو الظرفية المجازية العرفية تشبيهًا لدلالة اللفظ باحتواء الظرف فيكون تخطئة للذين أعرضوا عن استماع القرآن فقالوا: {لا تسمعوا لهذا القرآن} [فصلت: 26] استنزالًا لطائر نفورهم كأنه قيل هذا الكتاب مشتمل على شيء من الهدى فاسمعوا إليه ولذلك نكر الهدى أي فيه شيء من هدى على حد قول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: «إنك امْرؤ فيك جاهلية» ويكون خبر لا محذوفًا لظهوره أي لا ريب موجود، وحذف الخبر مستعمل كثيرًا في أمثاله نحو: {قالوا لا ضير} [الشعراء: 50] وقول العرب لا بأس، وقول سعد بن مالك:
من صد عن نيرانها ** فأنا ابن قيس لا بَرَاحُ

أي لا بقاء في ذلك، وهو استعمال مجازي فيكون الوقف على قوله: {لا ريب} وفي الكشاف أن نافعًا وعاصمًا وقفا على قوله: {ريب}.
وإن كانت الإشارة بقوله: {ذلك} إلى {الكتاب} باعتبار كونه كالحاضر المشاهد وكان قوله: {الكتاب} بدلًا من اسم الإشارة لبيانه فالمجرور من قوله: {فيه} ظرف لغو متعلق بريب وخبر لا محذوف على الطريقة الكثيرة في مثله، والوقف على قوله: {فيه} فيه معنى نفي وقوع الريب في الكتاب على هذا الوجه نفي الشك في أنه منزل من الله تعالى لأن المقصود خطاب المرتابين في صدق نسبته إلى الله تعالى وسيجئ خطابهم بقوله: {وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله} [البقرة: 23] فارتيابهم واقع مشتهر، ولكن نزل ارتيابهم منزلة العدم لأن في دلائل الأحوال ما لو تأملوه لزال ارتيابهم فنزل ذلك الارتياب مع دلائل بطلانه منزلة العدم.
قال صاحب المفتاح: ويقلبون القضية مع المنكر إذا كان معه ما إن تأمله ارتدع فيقولون لمنكر الإسلام: الإسلام حق وقوله عز وجل في حق القرآن: {لا ريب فيه} وكم من شقي مرتاب فيه وارد على هذا فيكون المركب الدال على النفي المؤكد للريب مستعملًا في معنى عدم الاعتداد بالريب لمشابهة حال المرتاب في وهن ريبه بحال من ليس بمرتاب أصلًا على طريقة التمثيل.
ومن المفسرين من فسر قوله تعالى: {لا ريب فيه} بمعنى أنه ليس فيه ما يوجب ارتيابًا في صحته أي ليس فيه اضطراب ولا اختلاف فيكون الريب هنا مجازًا في سببه ويكون المجرور ظرفًا مستقرًا خبرَ لا فيَنظُر إلى قوله تعالى: {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا} [النساء: 82] أي إن القرآن لا يشتمل على كلام يوجب الريبة في أنه من عند الحق رب العالمين، من كلام يناقض بعضه بعضًا أو كلام يجافي الحقيقة والفضيلة أو يأمر بارتكاب الشر والفساد أو يصرف عن الأخلاق الفاضلة، وانتفاء ذلك عنه يقتضي أن ما يشتمل عليه القرآن إذا تدبَّر فيه المتدبرُ وجده مفيدًا اليقين بأنه من عند الله والآية هنا تحتمل المعنيين فلنجعلهما مقصودين منها على الأصل الذي أصلناه في المقدمة التاسعة.
وهذا النفي ليس فيه ادعاء ولا تنزيل فهذا الوجه يغني عن تنزيل الموجود منزلة المعدوم فيفيد التعريض بما بين يدي أهل الكتاب يومئذٍ من الكتب فإنها قد اضطربت أقوالها وتخالفت لما اعتراها من التحريف وذلك لأن التصدي للإخبار بنفي الريب عن القرآن مع عدم وجود قائل بالريب فيما تضمنه أي بريب مستند لموجب ارتياب إذ قصارى ما قالوه فيه أقوال مجملة مثل هذا سحر، هَذا أساطير الأولين يدل ذلك التحدي على أن المراد التعريض لاسيما بعد قوله: {ذلك الكتاب} كما تقول لمن تكلم بعد قوم تكلموا في مجلس وأنتَ ساكت: هذا الكلام صوابٌ تعرض بغيره.
وبهذا الوجه أيضًا يتسنى اتحاد المعنى عند الوقف لدى من وقف على {فيه} ولَدى من وقف {على ريب} لأنه إذا اعتبر الظرف غير خبر وكان الخبر محذوفًا أمكن الاستغناء عن هذا الظرف من هاته الجملة، وقد ذكر الكشاف أن الظرف وهو قوله: {فيه} لم يقدم على المسند إليه وهو {ريب} أي على احتمال أن يكون خبرًا عن اسم لا كما قُدم الظرف في قوله: {لا فيها غول} [الصافات: 47] لأنه لو قدم الظرف هنا لقصد أن كتابًا آخر فيه الريب. اهـ.
يعني لأن التقديم في مثله يفيد الاختصاص فيكون مفيدًا أن نفي الريب عنه مقصور عليه وأن غيره من الكتب فيه الريب وهو غير مقصود هنا.
وليس الحصر في قوله: {لا ريب فيه} بمقصود لأن السياق خطاب للعرب المتحدَّيْنَ بالقرآن وليسوا من أهل كتاب حتى يُرد عليهم.
وإنما أريد أنهم لا عذر لهم في إنكارهم أنه من عند الله إذ هم قد دُعوا إلى معارضته فعَجزوا.
نعم يستفاد منه تعريض بأهل الكتاب الذين آزروا المشركين وشجعوهم على التكذيب به بأن القرآنَ لعلو شأنه بين نظرائه من الكُتب ليس فيه ما يدعو إلى الارتياب في كونه منزلًا من الله إثارة للتدبر فيه هل يجدون ما يوجب الارتياب فيه وذلك يستطير جاثم إعجابهم بكتابهم المبدللِ المحرف فإن الشك في الحقائق رائد ظهورها.
والفجر بالمستطير بين يدي طلوع الشمس بشير بسفورها.
وقد بنَى كلامه على أن الجملة المكيفة بالقصر في حالة الإثبات لو دخل عليها نفي وهي بتلك الكيفية أفاد قصر النفي لا نفيَ القصر، وأمثلة صاحب المفتاح في تقديم المسند للاختصاص سوَّى فيها بين ما جاء بالإثبات وما جاء بالنفي.
وعندي فيه نظر سأذكره عند قوله تعالى: {ليس عليك هداهم} [البقرة: 272].
وحكم حركة هاء الضمير أو سكونها مقررة في علم القراءات في قسم أصولها. اهـ.

.قال السعدي:

{لا رَيْبَ فِيهِ} لا شك بوجه من الوجوه، ونفي الريب عنه، يستلزم ضده، إذ ضد الريب والشك اليقين، فهذا الكتاب مشتمل على علم اليقين المزيل للشك والريب، وهذه قاعدة مفيدة، أن النفي المقصود به المدح، لابد أن يكون متضمنا لضده، وهو الكمال، لأن النفي عدم، والعدم المحض، لا مدح فيه. اهـ.

.قال السمرقندي:

فإن قيل: كيف يجوز أن يقال: لا شك فيه؟ وقد شك فيه كثير من الناس وهم الكفار والمنافقون؟ قيل له: معناه لا شك فيه عند المؤمنين وعند العقلاء.
وقيل: معناه لا شك فيه، أي لا ينبغي أن يشك فيه، لأن القرآن معجز فلا ينبغي أن يشك فيه أنه من الله تعالى. اهـ.

.قال محمد بن أبي بكر الرازي:

{لا ريب فيه} أي لا ريب فيه عند الله ورسوله والمؤمنين.
أونفي معناه النهي أي لا ترتابوا فيه؛ إنه من عند الله ونظيره قوله تعالى: {وأن الساعة آتية لا ريب فيها} [الحج: 7]. اهـ.

.قال ابن جزي:

إن المراد لا شك أنه من عند الله في نفس الأمر في اعتقاد أهل الحق ولم يعتبر أهل الباطل. اهـ.

.قال الشنقيطي:

إن القران بالغ من وضوح الأدلة وظهور المعجزة ما ينفي تطرق أي ريب إليه، وريب الكفار فيه إنما هو لعمي أبصارهم كما بينه تعالى بقوله: {أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى} [الرعد: 19].
فصرح بأن من لا يعلم أنه الحق أن ذلك إنما جاءه من قبل عماه ومعلوم أن عدم رؤية الأعمى للشمس لا ينافي كونها لا ريب فيها لظهورها.
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة ** فلا غر أن يرتاب والصبح مسفر

وقال ابن الجوزي: فإن قيل: فقد ارتاب فيه قوم، فالجواب: أنه حق في نفسه فمن حقق النظر علم قال الشاعر:
ليس في الحق يا أمامه ريب ** إنما الريب ما يقول الكذوب

وأجاب في تنوير الأذهان بقوله:
إن هذا نفي الريب عن الكتاب لا عن الناس، والكتاب موصوف بأنه لا يتمكن فيه ريب فهو حق صدق معلوم ومفهوم- شك فيه الناس أولم يشكوا- كالصدق صدق في نفسه وإن وصفه الناس بالكذب، والكذب كذب وإن وصفه الناس بالصدق، فكذا الكتاب ليس مما يلحقه ريب أو يتمكن فيه عيب. اهـ.

.قال الفخر:

الوقف على {فيه}:
الوقف على {فِيهِ} هو المشهور، وعن نافع وعاصم أنهما وقفا على {لاَ رَيْبَ} ولابد للواقف من أن ينوي خبرًا، ونظيره قوله: {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ} [الشعراء: 50] وقول العرب: لا بأس، وهي كثيرة في لسان أهل الحجاز؛ والتقدير: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} {فِيهِ هُدًى}.
واعلم أن القراءة الأولى أولى؛ لأن على القراءة الأولى يكون الكتاب نفسه هدى، وفي الثانية لا يكون الكتاب نفسه هدى بل يكون فيه هدى، والأول أولى لما تكرر في القرآن من أن القرآن نور وهدى والله أعلم. اهـ.